مشهد في ظلال البحث العلمي


 البحث العلمي هو أداة فكرية ، إنسانية ومجتمعية ، يقوم به المبدعون في تخصصاتهم أو غيرها من المعارف التي ترتبط بهم أو بناء على إدراكهم بحاجة المجتمع (سواء كان المجتمع العلمي بدراسات علمية متخصصة أو المجتمع المدني) لمنحه الأفكار وحلول للمشكلات القائمة أو المتوقعة ، ولكن المشهد الذي يراه الجمهور يختلف جذريا عن واقع الأمر ، فهم لا يدركون الظلال خلف هذا المشهد. في هذا المقال توضيح لما حول الصورة ، والذي نسقته وأضفت إليه رأيي المتبسط عن مشاكل البحث العلمي وكيفية الحل.

نظرا لتشعب هذا المقال سيتم ترقيم الفقرات المتتالية لاختصار النص. 

فقرة 1

البحث العلمي ينقسم لقسمين متداخلين في التعريف أولهم الأبحاث الأكاديمية وثانيهم الأبحاث التقنية والتطبيقية ، والأخير ذو مردود سريع ومخرجات تراها الأعين وتلمسها أيدي الجمهور وتدركها عقولهم، تهتم به الدول النامية لدفع عجلة التنمية الأساسية ويعتمد بشكل أساسي على حل المشكلات القائمة فعلا في مجالات التنمية المختلفة ، ويعززه الملكية الفكرية للطرق والوسائل المستحدثة والمواد الجديدة ، إلا أن العمر النسبي لنتائج تلك الدراسات صغير إذا ما قورن بالأبحاث الأكاديمية. الأبحاث الأكاديمية بشكل عام لا تستهدف الجمهور ولكن تستهدف المعرفة والاهتمامات والأبحاث والاستنتاجات الفردية المفتوحة للمناقشة والجدل في الوسط الأكاديمي والتي بدورها تخلق فرصا استثمارية لخدمة المجتمع ، وتضمن استمرارية الفكر والتطوير وطرح أسئلة والتوصل إلى نتائج جديدة على ضوء الجدل المتنامي على الدوام.فاكتشاف التركيب الذري للعناصر هي بحوث أكاديمية ليس لها مجال مجتمعي دون البحوث التطبيقية في تكنولوجيا المواد أو التركيب الحيوي ، والمعرفة في مجال التركيب النووي هي بحوث أكاديمية ليس لها تطبيق دون البحوث التطبيقية في مجال مفاعلات القوى والطب النووي. في قصة توفيق الحكيم لفيلم الأيدي الناعمة (1963) ، لم يهتم أحمد مظهر (في دور الأمير العاطل) بأعراب صلاح ذو الفقار (في دور عالم اللغة) لحرف "حتى" إن كان لعطف أم لأستأنف في جملة " أكلت السمكة حتى رأسها" كل ما أهتم به هو "أكل السمكة!" ، ومن هنا نخلص أن الأسس التي يبنى عليها العلم والمعرفة تقبع في البحث الأكاديمي بينما ما يراه المجتمع هو القمة البارزة من جبل الثلج المتمثلة في البحث التقني. ولعل هذا ما نسمعه من بعض المتحذلقين بقولهم "وماذا أفادنا البحث العلمي!" ، فهم لا يرون في الصورة إلا كياناتها ، قمة الجبل أو "السمكة" ، وأقول لهم أنظر لترى حول المشهد. 

فقرة 2


فالبحث العلمي ليس الترف الفكري المزعوم وليس إضاعة للمال ، بل على العكس تماما ، فالمردود المادي والمالي من استثمار البحث العلمي يزيد يوما بعد يوم ، ولكن . . . بعض الإدارات (سواء كانت مؤسسية أو قومية) لا تعي ، إلى الآن ، قيمة البحث العلمي ، أو تؤجله لحين، وقد تعمل على إجهاض البحث العلمي أو عدم تسيير اعتماده المالي ، والمثير للأمر أن البحوث وخصوصاً الأكاديمية لا يتم الإفادة منها بالشكل المطلوب ما يعني ضياع الجهد والمال بين أرفف تلك الإدارات. حيث تكاد تنعدم السياسات الإستراتيجية لمراكز البحوث الأكاديمية، ولا يمكن الجزم بوجود مصادر مخصصة لتمويل الأبحاث العلمية ، كما أنه يمكن بكل سهولة أن نلاحظ مدى الانقياد خلف علوم ونظريات بعينها يضعها الغرب قيد أعيننا بأساليبه ومقاييسه الخاصة دون البحث عن الأسباب والسعي وراء الحقيقة كما خلص لذلك الكاتب محمد ياقوت مختصرًا الأمر في كتابه "أزمة البحث العلمي"
 

فقرة 2.1

مخرجات البحث العلمي

أولا- المعرفة العلمية

ليس هناك أثمن من المعرفة ، فكل ما يندرج في إطار المنتجات المعرفية من حصيلة التعلم ونقل العلم ومناقشته عبر العصور هو استثمار ، من بداية معرفتك كيف تعمل الأشياء وحتى الطرق المتاحة للاستفادة من الموارد ، ودرء المخاطر، وتوقع الحوادث والكوارث والوقاية منها ، واختصار الوقت والجهد وتوفير وسائل الراحة ، واجتياز المشكلات ، واتخاذ القرارات والإجراءات المناسبة ، وفي الوقت المناسب. والمعارف العلمية تكتسب إما بالاستفادة من الخبرات والتجارب السابقة أو بالبحث والتجريب والاستدلال بالقياس ، فالأول يعتمد على القدرة الاستيعابية Acquisition Capacity للباحث والمجتمع بينما الأخير يعتمد على القدرة على التطويرDevelopment Capacity. 

فقرة 2.2

ثانيا - حل المشكلات والخدمات الفنية

البحث العلمي التقني يهدف لوضع نتائج موضوعية توظف في حل مشاكل القائمة أو أَمثَلَةَ استخدام الموارد للوصول لأعلى وأكثر قيمة ، وقد يسهم أيضا في حل مشكلات سوق العمل من خلال توظيف المعارف والنظريات العلمية لتصحيح مسار الصناعة والزراعة والأساليب المهنية بما في ذلك تقديم الخدمات الفنية في استعمال طرق ومؤشرات التحليل الإحصائي والتغذية الراجعة لدراسة السوق ، وإيجاد تقنيات جديدة لأساليب حياة قائمة ، والكشف عن الموارد الخفية في الأرض والبحر والسماء ، وأجراء التحليل للتعرف على المكونات الأساسية للخامات ، واستنباط الأصناف الزراعية وتوصيفها ، وتطوير سبل العلاج الطبي سواء الكيميائي أو الفيزيائي أو النفسي أو الإكلينيكي ، وأمثلة المفاهيم الأساسية من وسائل الري وحتى طرق البناء ، وتطوير البرمجيات ونظم الحماية الرقمية ، وتوصيف المواد الجديدة وتطويع سبل استخدامها بما فيها المواد الصناعية والاليكترونيات والموصلات الفائقة والمستحضرات الصيدلانية ، وإنتاج الطاقة من مرحلة استخراج الخامات سواء بترولية أو نووية مرورا بسبل توليد الطاقة مولدات ومفاعلات نووية وحتى سبل تخزينها واستغلالها الأمثل ، وحماية البيئة من أخطار التلوث الكيميائي والإشعاعي والبيولوجي الناتج عن النشاط البشري أو التغيرات الطبيعية. 

فقرة 2.3

ثالثا - الملكية الفكرية - براءات الاختراع والتصميمات والنماذج

لعل موضوع حماية الملكية الفكرية من الموضوعات الحيوية الهامة التي تطرح على الساحة الأكاديمية والاقتصادية. فمنذ اشتعلت الثورة الصناعية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر بدأ الفكر يتجه إلى ضرورة حماية الابتكار والتقدم العلمي والتكنولوجي من خلال حماية الملكية الفكرية بوجه عام، وكان كل يوم يمر بعد ذلك يؤكد ضرورة هذه الحماية ، فقد أصبحت المعلومات والأفكار أموالاً ترد عليها الحقوق، وتُعقد بشأنها العقود، وبدأ الابتكار يتسع ويزداد في كل المجال، مما ضاعف من الشعور العام بضرورة حماية الملكية الفكرية على كافة الأصعدة. في عالم يتسم بالصراع المستمر من أجل السوق تكون للملكية الفكرية مكان شديد الأهمية ، فهي الوسيلة الوحيدة لتجنب الصدام ، وتصبح مناظرات العقول ساحة الحرب بين الفرق المتصارعة بين الفرق المتصارعة وأسلحتها تكمن في براعة الباحث في عرض الفكرة بشكل يمنع انتهاكها من قبل الغير، وكلما كانت الفكرة معتمدة على نتائج البحث العلمي الأكاديمي ومصدق على قابليتها للتطبيق من خلال البحث العلمي التقني كلما كانت أقرب للقبول وأعلى في العائد المادي. تخضع جميع حقوق الملكية الفكرية لحماية القانون والاتفاقيات الدولية الموقعة بهذا الشأن وبذلك تحمي براءات الاختراع المنتجات الخاصة بالاستثمارات الصغيرة من هيمنة الشركات الكبير المسيطرة على السوق مما يساعد على منع الاحتكار ودعم الاقتصاد وستمثل عوائد بيع الاختراعات والتصميمات الصناعية مصدرا للدخل القومي. ولمنح براءات الاختراع نفع نفسي لدى الباحث والمجتمع فغالبا ما تولد الفكرة أفكارا أخرى في دورة علمية كبيرة ، ويزيد العائد الاقتصادي المرجو سواء كان بالبيع أو التنفيذ من اهتمام المجتمع بالبحث العلمي وإمكاناته ويوجه المجتمع نحو إظهار أفكاره الدفينة سواء بالتعاون أو إبراز المشكلات لمحاولة حلها وتكون المنافسة بين المبتكرين والمخترعين مولد للمزيد من الأفكار، وقد تشمل الأفكار طرقا وسبلا لإعادة استغلال الموارد وتدوير مخلفات صناعية وغيرها مما يصب في مصلحة المجتمع. 

فقرة 2.4

رابعا البحوث العلمية

كثيرا ما يشاع أن البحوث العلمية ليس لها عائد مادي ، لدحض هذه الأكذوبة أذكر بعض الحقائق : ينقسم البحث العلمي لعدد من الأوجه التي أذكرها تنازليا ، الوجه الأخير يمثله الصفوة من الباحثين والعلماء وأصحاب المدارس العلمية الذين يضيفون الجديد ويسبرون أعماق تخصصاتهم من خلال البحث العلمي الأكاديمي والتقني على حد سواء ، الوجه الثاني يمثله حملة درجات الماجستير والدكتوراه الذين تلقوا أصول البحث العلمي من صفوة الباحثين وينهضون بالعلم ويضيفون إليه لمساتهم الخاصة وأخيرا الوجه الأول وهو التلقين أو الاستيعاب وفي بلداننا النامية يلتزم بهذا الشطر طلبة الجامعات وبعض طلاب الدراسات العليا ويستقون العلم ممن سبقهم. تمثل كل تلك الفئات مجتمعة قوة بشرية داعمة للاقتصاد ، إذ بدون أي من تلك الأوجه للبحث العلمي تتوقف عجلة الإنتاج وتضعف القدرة على تصدير القوة العاملة والتي يمثل دخلها لبعض الدول نسبة عالية من الدخل القومي ، فعلى سبيل المثال تضم أمريكا 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا وفق تقارير مؤسسة العمل العربية. هذا بالرغم من ضعف التمويل المقدم حيث يصل إلى دولار واحد لكل نسمة في السنة حسب تقرير اليونسكو ( المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم ) للعام 2010 بالمقارنة مع إنفاق الولايات المتحدة على البحث العلمي والذي يصل إلى 700 دولار لكل نسمة في السنة. ولنأخذ الهند كمثال ، فمن بين كل عشرة علماء في دول الاتحاد الأوربي والغرب الأمريكي تجد أربعة وجوه هندية . 

فقرة 3

دور الحرية مقابل القيود المفروضة

يجري البحث العلمي كماء الجدول مندفعا برغبة الباحث لملء الفراغ بالمعرفة ، في جانبيه تكمن قيود البحث العلمي الموجه بغية تحقيق أهداف بعينها أو الوصول لحل مشكلات بعينها ، وفي مجراه تكمن الحرية الأكاديمية ، ومما لاشك فيه أن من أهم مقومات البحث العلمي توفر الحرية الأكاديمية المسئولة والتي تدفع العالم نحو البحث عن المعرفة ، وهنا يكمن دور الإدارات العلمية ، فبالتوفيق بين الدور المقيد للبحث العلمي والسماح بالحرية الأكاديمية يصل كل لمبتغاه ، وربما أجلّ ، باكتشاف مجريات أخرى للأمور أو براءات اختراع أو معارف علمية لم تكن في الحسبان ، فالتقييد المطلق يسبب إحجام الباحثين عن البحث وفي الحرية المطلقة يهدر الوقت والجهد. ويذكر الكاتب محمد مسعد ياقوت في كتابه "أزمة البحث العلمي في مصر والوطن العربي" أن لا تقدم في العلم ولا إبداع إلا بتوفير الحرية الأكاديمية . 

فقرة 3.1

وتتعدد صور القيود المفروضة على البحث العلمي ، فالجلي منها القيود المتعلقة بتكاليف إجراء البحث والتي تعتمد على حصة الباحثين من ميزانية البحث العلمي المتوفرة والإمكانات المتاحة للباحثين لأجراء البحث العلمي ، ولكن بعض الإدارات تفرض قيودا أخرى من حيث التخصص الدقيق للدراسة أو تطلب الوصول لنتيجة معينة وغالبا لا تكون بهدف البحث الأكاديمي بل أبحاثا تقنية بغرض حل مشكلات بعينها أو امتلاك فكرة أو نموذجا صناعيا أو غير ذلك ، وقد تهدر المنافع المتوقعة من المعرفة المكتسبة نتيجة القيود المفروضة من قبل بعض الإدارات. يحتاج البحث العلمي في المؤسسات العلمية بشكل عام ومراكز البحوث بشكل خاص إلى إستراتيجية تتسم بالمرونة وقابلية التطبيق الفعلي ، كما يجب أن تتسم بالشفافية ووضوح المعالم والحرية الأكاديمية ، ففي واقع الأمر ستتكرر الدعاوى من ضعف ميزانية البحث العلمي أو الإمكانات المتاحة للباحثين لأجراء البحث العلمي ، مهما كان الاعتماد المالي المقدم. 

فقرة 4

ترتكز معظم مشكلات البحث العلمي على عدة أسباب أهمها: 

فقرة 4.1

1) غياب التكامل بين المعامل المختلفة ، ففي استبيان وزعته جريدة الأهرام المصرية علي عينة شملت 127 باحثا بالمركز القومي للبحوث ومعهد بحوث البترول أرجع 73% من المستجيبين أزمة البحث العلمي إلي سوء إدارة التمويل المتاح ، فيما رأى 72.6% منهم أن الموازنة تبدد في أمور لا تفيد الباحثين ، و96.4%من العينة أنه لا يوجد تكامل في البحث العلمي ، وأكد 70.2% غياب التنسيق. " المرجعhttp://www.ahram.org.eg/archive/Investigations/News/112829.aspx  

فقرة 4.2

2) الاحتكار ، أحد أكبر مشكلات البحث العلمي في مصر والدول النامية ويؤدي لتكرار وجود الأجهزة المكلفة والمنشآت بين المعامل المختلفة وربما في نفس المركز البحثي والسبب في هذا هو النزعة الانفصالية السائدة بين الفرق المختلفة من الباحثين بسبب قيام الدولة بشكل مستمر بتقسيم المراكز البحثية بدلا من دمجها ومثال ذلك تقسيم مؤسسات بحثية بعينها أنشئت منذ ما يزيد عن 60 عاما إلى العديد من الهيئات المستقلة والتي ورثت نفس مَلَكَة الانقسام. بالمقارنة، فإن بعض المؤسسات التي لم تنقسم مازالت محتفظة بكياناتها الكاملة إلى الآن وتفوق في مخرجاتها كل مخرجات الهيئات المنقسمة ، ففي الاتحاد قوة. 

فقرة 4.3

3) اعتماد نشر البحوث العلمية في دوريات مرموقة كوسيلة وحيدة للترقي في المؤسسات العلمية وهي أمور تتطلب توفير اعتماد مالي استثنائي للوصول لنتائج ليمكن نشرها بالدوريات العلمية المرموقة. وهذا الاشتراط الأخير سببا جزئي أخر في أزمة البحث العلمي ، إذ أن مقياس الجدارة للدوريات العلمية يرتبط بالسياسة العامة لدور النشر والتي لها توجهات تخدم فقط الدول الراعية لها. 

فقرة 4.4

4) الاستناد على المقاييس الغربية (أوربية أو أمريكية) في تقييم البحث العلمي للدول النامية ، ذلك بُغية تطبيق مبدأ "البدء من حيث انتهى الآخرون" ، إنه المبدأ المتأنق الذي أسيئ استخدامه فأذل الباحثين، نعم ؟ فالبدء من حيث انتهى الآخرين أمر جيد من حيث أنك لن تبحث في أمور ثبتت بالتجربة وبالبرهان ولكن البدء على أسس الآخرين ومقاييسهم والتي تخدم توجهاتهم فقط أمر ضار، فهي بالتأكيد لتضعف دور المجتمعات النامية في مواجهة المجتمعات السابقة في مجال البحث العلمي. ولقد عانيت مرارا من كون البحوث العلمية ذات الفكر الجديد صعبة النشر في الدوريات العلمية المرموقة ، لأسباب ذكر بعضها في إعلان الحرية الأكاديمية (النسخة العربية http://www.ptep-online.com/2011/PP-27-L2.PDF) ، بينما تكون البحوث الأقل أهمية مقبولة النشر (بالفعل ، فما الأخيرة إلا بحوث تكرارية أو تحتوي على كلمات مفتاحية ذات معامل تأثير عالي) 

فقرة 4.5

5) استمرار التوجه لبرامج استيعاب التكنولوجيا الغربية دون برامج إنشاء التكنولوجيا وتوظيفها في خدمة التنمية ومواكبة ظروف المجتمع ، ويقدم تقرير اتحاد مجالس التنافسية العالمية Global Federation of Competitiveness Councils (GFCC) https://www.thegfcc.org عام 2010 فكرة أن الهدف من الابتكار هو خلق قيمة جديدة للمستخدمين المحتملين ومن ثم رسم الطرق المختلفة التي قد يسلكها المبتكرين من أجل خلق هذه القيمة ، وذلك عن طريق الوصول لمعارف جديدة ويمكن للمدن والأقاليم والدول أن تبتكر وتزدهر بطرق عديدة متنوعة ، ليس منتهاها تعلم واستيعاب الابتكارات من آخرين. ويقدم تقرير دولة الإمارات العربية المتحدة عن نظرية الاستيعاب/التطوير والذي يصف القدرة الاستيعابية بقدرة اكتساب التكنولوجيا من الغير ونقلها ونشرها بينما تزود القدرة على التطوير المجتمع بالمعارف الجديدة وطرق استغلالها. وأضيف لتلك النظرة أنه بدون القدرة الذاتية على التطوير فإن القدرة الاستيعابية للمجتمع تصبح كأن لم تكن فالقدرة على التطوير تعمل كدقاق الساعة إن لم يتحرك الدقاق نتيجة القيود المفروضة (فقرة 3.1) وقفت الساعة وفسد عملها أو تأخر وقتها ، كما هو الحال الآن. 
شكل توضيحي لمبدأ  الاستيعاب/التطوير حيث تشكل القيود الحاجز بين المجتمع ممثلا في قدرته الأستيعابية وقدرته على التطوير من جانب وتأثيره أوتأثره بمصادر المعرفة من جانب آخر 

 فقرة 4.6

6) الرؤية التنافسية بين الباحثين (سواء بالابتكار أو النشر الدولي) بسياسة الفرصة الواحدة تجعل جودة مخرجات البحث العلمي ضعيفة وغير مفيدة للمجتمع ، فتعدد الفرص دافع نفسي قوي لإضفاء طابع الجودة لمخرجات البحث العلمي. ومن ذلك وقف تفشي ظاهرة عدم النزاهة العلمية حيث يضطر الباحث إلى إشراك أسم غير ذوي الجهد في فريق البحث رغم عدم حاجته إليهم وذلك لضمان أن يحصل على تمويل الفرصة الواحدة أو أمكانية استخدام التجهيزات فيما بعد. 

فقرة 4.7

7) عدم إيمان الباحث بأهمية دوره في خدمة المجتمع واعتباره البحث العلمي طريقة لكسب ما يكفيه لسد متطلبات المعيشة ، كوظيفة وليس كهدف. وفي المقابل أيضا يكون المجتمع نفسه غير مؤمن بدور البحث العلمي في التنمية. جُل ما يؤمن به بعض أرقام المعايير والمقاييس المبنية على أساس الفخر والكبر والدعاية ، ليس لها أساس في واقع البحث العلمي بل أن البحث العلمي الذي يخدم المجتمع قد يتخذ مسارا مخالفا لتلك المقاييس والمعايير. 

فقرة 4.8

8) التكرارية في إجراء البحث العلمي: إن غياب التكامل بين المعامل المختلفة قد يتسبب في تكرار إجراء نفس الدراسات البحثية مما قد يتسبب في إهدار الموارد المالية والجهود بالنسبة للدول الفقيرة ، ولكن هل تكرار إجراء التجارب نفسها مخالف لمبادئ البحث العلمي؟ بالطبع لا. إن التجارب المعملية أحد الأسس الرئيسية الذي تقوم عليها الأبحاث العلمية سواء من أجل تدعيم نظرية ما أو دحضها بدليل قاطع ضد برهان النظرية أو تتبع ظاهرة ما أو استنتاج نظرية لظاهرة ما ، ومن أهم مقومات النتائج المعملية أمكانية تكرارها عدة مراتٍ من أجل اعتماد نتائجها ، وقد يكون التكرار أو الإعادة بواسطة نفس مجموعة العمل أو بواسطة مجموعة مناظرة سواء للوصول لنفس النتائج أو الوصول لنتائج تحليل أخرى لم تكن موجودة في التجارب الأولى أو لتتبع تأثير تغيير بعض المعاملات على النتائج ذلك أنة من المستحيل لتجربة واحدة قياس جميع المتغيرات والأسباب المؤدية للنتائج. وهذا يرجح كفة عدم الاعتماد على المقاييس والمعايير الغربية لأجراء البحث العلمي كما ذكرنا سابقا ، لأن أفضلية قبول الدوريات الدولية لنشر مكرر للتجارب البحثية يعني سعيهم نحو تأكيد نتائجهم ، ولكن على نفقة الدول الفقيرة! والغريب هو أن حكومات الدول الفقيرة تدعمهم بلوائحها وقوانينها ! فها نحن نقرأ عن كل من إيد يونج وهايدي لدفورد و ريتشارد فان نوردن في تقريرهم الإخباري في مجلة نيتشر (الطبعة العربية) https://arabicedition.nature.com/journal/2014/01/503454a أن عدد من البحوث المنشورة في مجلتهم المرموقة مبنية على نتائج مكررة أو نتائج لتجارب لم تتم بما يخالف أخلاقيات البحث العلمي وإهدارا لأموال دافعي الضرائب. 

فقرة 4.9

9) التهاون في بعض أو كل الخطوات المنهجية لأجراء البحث في التخصص المستهدف بشكل لا يأخذ في اعتباره كافة متغيرات الدراسة وكذلك الإهمال في توصيف دقيق للمراحل المتعاقبة في البحث ، الأمر الذي يؤدي لخطأ الاستنتاج ، من ذلك الانحياز للنتائج تمثل وجهة نظر سائدة في الوقت الذي تشير فيه النتائج لوجود عديد من التصورات التي قد تكون مخالفة للنظرية السائدة. 

فقرة 5

الحلول المقترحة 

فقرة 5.1

تكمن الحلول المقترحة في معرفة أن المعضلتين الأساسيتين هما
1) التوفيق بين التقييد والحرية الأكاديمية
2) التوفيق بين دعم مجالات القدرة الاستيعابية لتقنية الغير والقدرة الذاتية على تطوير العلم ومخرجاته
وكلا المعضلتين متناظرتان فدعم مجالات القدرة الاستيعابية لمجتمع الباحثين تتطلب قيودا على توجهاتهم البحثية بينما يتطلب دعم القدرة على التطوير توفير الحرية الأكاديمية ، لكن العكس غير صحيح دوما. فالتوفيق بين النقيضين يجب أن يتم بضع المسافة الفاصلة الواصلة ، هذا اللفظ المستقى من رواية سعيد سالم "الفصل والوصل" ، بأن نستخدم المبدأ الفقهي الأساسي بأن "العِلَّةُ تَدورُ معَ المَعلولِ وُجوداً وعَدَماً" فإذا زالت العِلَّةُ زالَ المعلولُ ، ففرض أو وجود القيود يلزمه العلة ، السبب الذي إذا ذال فك القيد. فالقيود الخاصة بتكاليف إجراء البحث والتي تعتمد على حصة الباحثين من ميزانية البحث العلمي (فقرة 3.1) أو القيد الأخلاقي من الهدف أو الوسيلة المستخدمة قيودا أزلية. لكن ، في بعض الأحيان يكون إجراء البحوث مقيد بسبب عوامل خارجية أو بيئية أو جغرافية قابلة للتغيير كالبحوث في المجال النووي أو البحوث المعتمدة على تخطي الحدود الجغرافية للدول كبحوث المناخ ، والتي ينتهي قيدها بزوال السبب. 

فقرة 5.2

ويأتي المزج بين التخصصات المختلفة في الدراسة البحثية الواحدة أمرا ضروريا للوصول لنماذج أولية قابلة للتطبيق أو للتصنيع لتقديمه للصناعات المختلفة والتي تخدم المجتمع ، وذلك كله في دورة عظيمة تبدأ من المجتمع ثم الجامعات فمراكز البحوث فالصناعة فالمجتمع مرة أخرى. فليصل إليك هذا المقال أشترك علماء في كافة التخصصات من الجيولوجيين والفيزيائيين والكيميائيين والبيولوجيين وعلماء الرياضيات واللغة ومهندسين الإنتاج والبرمجة للوصول إلى منتج يمكنك من ذلك ، ربما شاشة حاسوبك أو أوراق وماكينات الطباعة ، ولم يكن ذلك ممكنا إلا بدراية وربما اشتراك كل منهم بعمل الآخر. وبالتالي فإن وضع القيود على عدم المزج بين التخصصات أحد الأمور التي يجب أن نتجنبها (فقرة 3.1) ، وبذلك نعطي الفرصة للباحثين للوصول إلى منتج أو ملكية فكرية (فقرة 2.3) ذات قوة كافية لبدأ الاستثمار بها وليس فكرة بحثية معرفية يلقنها لأبنائه وتلاميذه (فقرة 2.4) ، وعليه فلن يكون هناك تهاون بخطوات أجراء بحوثهم (فقرة 4.9) لضمان الوصول للمخرج السليم من البحث العلمي. بذلك يتحرك دقاق ساعة الاستيعاب وقدرة التطوير (فقرة 4.5) ويبدأ المجتمع والباحثين ، على قدر سواء ، الشعور بأهمية دور كل منهم بالدعم والعمل. 

فقرة 5.3

في التعاون الفعلي المذكور في الفقرة السابقة (فقرة 5.2) وبالمزج بين التخصصات يكمن الحل لكثير من مشكلات البحث العلمي ، فيه يكون التكامل (فقرة 4.1) وعدم التكرارية في إجراء البحث العلمي المؤدي لنفس النتائج (فقرة 4.8) ، وبه يقل الاحتكار والنزعة الانفصالية بين الفرق المختلفة من الباحثين (فقرة 4.2) ، وحتى مع سياسة الفرصة الواحدة للتمويل والدعم (فقرة 4.6) يكون للتعاون والمزج بين التخصصات دور في مساواة الفرص بين التخصصات الأكاديمية والتخصصات التقنية. ويمهد بذلك طريق الوصول لمعارف جديدة ليس منتهاها تعلم واستيعاب الابتكارات من الغير (فقرة 4.5) عن طريق زيادة القدرة الاستيعابية والقدرة على التطوير على حد سواء (فقرة 5.2) ، وربما دعم ذلك إيمان المجتمع بأهمية البحث العلمي (فقرة 4.7) 

فقرة 5.4

كما ذكر في (فقرة 1 و 2) ، يجب التمييز بين البحث العلمي الأكاديمي والبحث العلمي التقني والتطبيقي من حيث المخرجات والعائد ، فكل مجال له دوره في خدمة المجتمع ولعل هذا المقال يوضح لغير المدركين أهمية دور البحث العلمي الأكاديمي الذي يرونه عديم الجدوى من وجهه نظرهم القاصرة. إن البحث العلمي الأكاديمي هو الآلية الفعالة في اكتساب المعرفة كأحد مخرجات البحث العلمي (فقرة 2.1 و فقرة 2.4) لزيادة القدرة على التطوير Development Capacity والدفع بعمليات استيعاب التكنولوجيا Acquisition Capacity إلى أبعد مدى ممكن (فقرة 4.5) ، وبذلك تكون المقاييس الغربية الغريبة في غير محلها (فقرة 4.4) ، فكلا من المسارين يدعم المجتمع بطرق حل المشكلات القائمة والمتوقعة وتقديم والخدمات الفنية للمشاريع والشركات (فقرة 2.2) ، ويقدم الملكية الفكرية لمنتجات وأفكار وطرق سواء للمستثمر الصغيرة أو الشركات الكبير (فقرة 2.3) 

فقرة 5.5

وأخيرا يجب ألا تعتمد توجهات الدول النامية وأساليب التقييم على مقاييس الغير (فقرة 4.3 و 4.4) 

فقرة 5.6

عدا مصادر البيانات "مفتوحة المصدر" المذكورة في هذا المقال ، تم مراعاة عدم ذكر أسم أي جهة بحثية ، فظلال المشهد ولسان حال معظم العلماء بمؤسسات البحث العلمي في الدول العربية يحكم بما هم فيه ، بين ما يزرعون وما يحصدون ، وبين ما يلتمسون وما يتلقون ، وبين وهم الفخر ومرارة القيود.

ا. د. السيد محمد كمال المغربي - في 16 يونيو 2018م ، 2 شوال 1439هـ
 Dr. Elsayed K. Elmaghraby

هذه المقال تعبر عن رأي كاتبها فقط ،
ولا علاقة لجهة عمله أو أي جهة أخرى بالآراء المذكورة.
نسخة  PDF من خلال الرابط

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مسيرة علماء الفيزياء - لاس فيجاس 1986

ألسنة متلونة

متناقضة الناجي (Survival Bias)