ألسنة متلونة

 ألسنة متلونة

 

ترددت كثيرا في نشر هذا الموضوع ، فما بين خشية أن يغضب مني الصديق وظني أنى قد أخاطب نفسي وخوفي من ترصد الزلات ، لأن الكلمة قد تكون أشد من الفعل بما تسببه من ائتلاف أو فُرقة ، رفقة أو حقد ، سعادة أو ألم. ولكن فضلت كتابته على سبيل النصح اللاذع لنفسي قبل غيري ولهؤلاء الذين يبدعون في تلوين ألسنتهم بخلط اللفظ والإشارة والفعل ، ومنهم صيادوا الفظ من الماء العكر والناسخين لينقلوه على ألسنتهم المتلونة إلى سامع ومستمع ومنصت أو ناقل آخر. وإلى هؤلاء المستمعين أيما كان غرضهم أو مقصدهم أو نياتهم.


إن التفاعل والعلاقة مع الآخرين باللفظ أو الفعل أو الإشارة هي سمة مهمة بين أفراد المجتمع ، يقودها التفوه باللسان ، ومنه أحسن الكلام ومنه أفسده ، ومنه إساءة استعمال الأمانة ومنه الهوس بالذات لذوي الألسنة المتلونة.

 الألسن ألوان فمنها الأبيض العذب والأخضر النقي والأصفر اللاذع ومنها الأحمر البائس والأزرق التعيس والأسود الشقي.. فكم شكر فيه صحبه عرفان وإحسان وكم من نصيحة أنجت وكم من لسان انتقد به فهدم وبنى وكم من نميمة gossiping فرقت بنقل كلام ، وكم من غيبة backbiting  أنهت أمرا بذكر عيوب وكم من ضحايا بهتان slander من اختلاق وافتراءات وكذب ، فذلك حديث بكلمات جليلة تعين في الحق، وتنبه الغفل، وتلك الألسن بكلمات سامة تجد من يسمعها إما مِن دافع فضول أو من نشوة أستماع أو من قبيل رد أو من باب تفريغ هم أو مجاملة المتحدث أو حتى دون وعي أو إدراك منهم. في المقابل ذلك السامع ينسخ ما قيل وقد يتخذها هو أو غيره كالدليل الجازم لتصدع العلاقات الخاصة وهدم الإنجازات تخلق العداوة والنفور وقد يمتد الأمر إلى حب تتبع الزلات ونقل كل ما يُنقل من دون مراعاة للصدق أو الوقت والموقف أو أي تفاصيل أخرى.

وألوان اللسان إما بصلاح النية أو خرابها

 فاللسان الأبيض في الشكر والامتنان بذكر ما يحب المذكور سماعه سواء كان موجودا أم لا.

 أما اللسان الأخضر فهو في النصيحة بذكر ما يكره المذكور ذكره أو التعبير عنه حال وجوده وحده ، ولها شروطها.

 أما اللسان الأصفر فهو في النقد ، وربما على هيئة نصح ، بذكر ما يكره المذكور ذكره أو التعبير عنه  في وجوده هو وغيره من السامعين ، وقد يقصد به النصح الإيجابي صلاح الفعل لمساعدة ومشاركة وتبرع وتعاون وتطوع أو يكون سلبيا ل السعي المَرضي وراء إشباع الذات بالغرور أو الإعجاب الأناني  والآني بالصورة المثالية الصفات

 أما السلوك السلبي الصريح فيبدأ من اللسان الأحمر ، إذ فيه نميمة بغير وجود المذكور ومنه الغيبة ينطقها ذلك اللسان الأزرق بما في المذكور أو قوله أو فعله أو شكله أو صفته من سيء الأمور بغية شحن نفوس بالكره أو زرع الحقد أو الحسد أو الغيرة ويستخدمون وسائل التهويل والتضخيم. ومنه أيضا البهتان ، قول ذلك اللسان الأسود ففيه نقل الكلام و تهويله أو تحويره أو المبالغة فيه، فهو آفة من آفات اللسان وما يدل إلا على مرض مقترفه نتيجة تنشئته منذ صغره إما لعدم حثه وتوجيهه وارشاده لإتباع السلوك الاجتماعي القويم أو أنه من السعي المَرضي وراء إشباع الذات بالغرور أو الإعجاب الأناني  والآني بالصورة المثالية الصفات. بل أن هناك من البشر من يبذلون جهدهم في الحصول في الأخبار ويجعلونه عملهم الشاغل.

 والطريقة التي ينقل بها اللسان الكلام والغاية من نقله تحددان لونه أيضا ، فالشكر والامتنان بغية إثارة الغيرة هي نقد ملتحف بعزيز الكلم والنصيحة المضللة هي احتيال  ممزوج بروح الأخوة وكلاهما من سواد الألسن إذ تتسببان في ، كثير من الأحيان ، بضرر الممدوح والمنصوح. 

 ولكن هل التفوه باللسان هو فقط المتلون ؟

لا، 

ففي نظرة العين قبول و إنكار

وفي حركات اليد وإشارة الطرف مقول ومقال

بل وكما في الشهيق تعجب ففي الزفير إنكار.

 إن من أساليب النقد السلبية:

1- الاتهام وغالبا ما يحدث ممن لديه ثقة زائدة في النفس أو أثناء تعرض أهدافه الخاصة للخطر.

 2- تصيد الأخطاء للآخرين والرد بالتعليقات اللاذعة والاستهزاء بالآراء وهذا يحدث من المتربص بغية إنهاء عمل خاص به في أسرع وقت أو في محاولة نيل الاهتمام وجذب الانتباه أو إشعار المنصوح بالحرج أو في إطار ميله المرضي للسيطرة وذلك في الوقت الذي يحتاج فيه المنصوح لمن يزيد ثقته بنفسه.

 3- توجيه النصح أمام الجمع بغرض في نفس الناصح يرتكز على إظهار النقص في شخص المنصوح.

 4- نقل صفة أو كلمة أو فعلا يكون في أصله سرا فيه خصوصية لا يرغب صاحبها في معرفة الآخرين بها، وقد تسبب له أو لغيره الإحراج ، أو تبث روح الحقد والكراهية بين صاحبها وسامعها ، أو تسبب التنافر والاختلاف والتباعد والقطيعة وإضعاف الروابط والتماسك الاجتماعي والمهني.

 5- الإسقاط النفسي  Psychological Projection  هو في درجة عتمته بين أساليب النقد السلبي والبهتان إذ قد يحدث في وجود المُسقط عليه أو غير وجوده. وهو آلية دفاع نفسي ينسب فيها المسقطون الخصائص أو المشاعر أو الدوافع أو المواقف التي يجدونها غير مقبولة في أنفسهم إلى شخص آخر، وذلك كوسيلة لتجنبها ، مثل حب السيطرة أو الغيرة أو الغضب أو غيرها مثل قبول الأخر أو احترام الرأي الخاص. إذ يقومون بتفعيل هذه الآلية في وجود الأخرين بأن يقول مثلا "أنت تكرهني" ولكنه يقصد القول هو "أكرهك" والعكس صحيح ، هنا يريد أن يخفف من إثمه ومشاعره الدفينة تجاه ذلك الشخص.

 وقد يكون الإسقاط بهدف الإشارة أن المُسقط عليه (عليهم) لديه (لديهم) ميول معينة تكمل معنى ما يقصده من كلمات أو يشاركونه في نفس المعتقدات (ويسمى الإسقاط التكميلي) لإيهام المستمعين من غيرهم بصحة النقد أو الرأي أو الكلام سواء عن المسقط عليه أو عن غيره. أما الإسقاط المجاني فهو مثل الإسقاط التكميلي لكن في المقدرة البشرية والمعرفة العلمية باعتبار معرفة المُسقط عليه (عليهم) بأحد الفنون أو القدرات.

 ومن الإسقاط أيضا الذاتي ، إسقاطا على ذات المتحدث ، ذلك مثل: الإنكار وهو عدم الاعتراف بشيء ما ، والتشويه هو تغيير واقع الموقف الشخصي نفسيا حتى يناسب الاحتياج ، والعدوانية والتي تتضمن التصرفات العدوانية المقصودة على النفس ردا على تصرف سابق ، والتسامي والذي يقصد به تحويل المشاعر السلبية إلى عوامل إيجابية ، مثل تنظيف المنزل وترتيبه إذا كنت غاضباً ، والتفكك والمقصود به تغير الشخصية بشكل كبير ولكن بشكل مؤقت ، وذلك لتجنب الشعور بالعاطفة مثلا التماسك وعدم البكاء عند الفراق.

 أما أساليب النميمة والغيبة والبهتان فبعضها في مايلي:

 1-  النميمة تتمثل بنقل كلام الناس بغية الإفساد بين المنقول عنه والمستمع. وهي فنون كثر : إما في نقل الكلام أو الفعل كله بنفس ترتيبه ونبرته ، وهو من الغيبة ، أما في نقل الكلام أو الفعل دون ترتيبه أو نبرته أو مقصده ، أو في حذف بعض الكلام أو الفعل ونقل الأخر بنفس تتابعه ونبرته مع الحذف ، أو حذف بعض الكلام أو الفعل ونقل الأخر دون ترتيبه أو نبرته أو مقصده ، وكلها سواء ، أو نقل الكلام أو الفعل بأي مما سبق و الزيادة عليه برأي ينسبه الناقل للقائل ، أو نقل الكلام أو الفعل بأي مما سبق و الزيادة عليه برأي الناقل ، وجميع ما سبق بهتان.  

 2- قد لا تشمل الغيبة نقلا للفظ بل انتقادا للشكل والمظهر الخارجي أو الصفات البدنية وهي أكثر صور النميمة النسوية ، و تستهدف غالبا محاولة نيل الاهتمام وجذب الانتباه. وقد يشوبها البهتان في النقل.

 3-وقد تشمل نقل الأساليب في التعامل المتبادل بغية تفريغ الهموم من شخص يعتقد المغتاب أنه أساء إليه حيث يلجأ إلى الحديث مع آخرين ومع إظهار عدم القدرة على التحمل.

 4- البهتان في أكثر صوره يتمثل بنقل كلام الناس ووضع الألفاظ في سياق معين ومقنع بغية الإفساد ، وتتمثل في بعد إضافي يمثله الحديث المنقول عن الآخرين بصورة سلبية أو منتقاة في وجود غيرهم دون المبهت. وعليه فإن ذلك الشخص الناقل للكلام يستهدف تحقق مكاسب حتى وإن كانت على حساب الغير.

 5- ذكر لسلبيات الآخرين وعيوبهم في وجود أخرين كأسلوب دفاعي يلجئ إليه الذي يشعر بالنقص، ذلك لأنه يرغب في الشعور بالراحة وذلك يمتدح نفسه بصورة غير مباشرة في كونه أفضل من الآخرين، إلا انه شعور ايجابي وقتي له ضرر ممتد. 

6- محاولة تكوين العلاقات الحميمة مع المتحدث معهم بذكره لسلبيات الآخرين وربما عيوبهم.

 7- حدوث البهتان بالإسقاط بغير وجود المنقول عنه أو المُسقط عليه  و هو كما ذكرنا نقد سلبي كآلية دفاع نفسي ينسب فيها القائل ما في نفسه على آخر لتجنب الإحساس بذنبها. ونكرر المثال بأن يقول "أنه يكرهني" ولكنه يقصد القول  "أكرهه" والعكس صحيح.  

 8- قد يكون البهتان بالإسقاط وفيه شقان، الأول يتم في لأخرين بنقل الكلام كله دون ترتيبه أو نبرته أو مقصده ، أو نسخ بعض الكلام ونقل الأخر بنفس تتابعه ونبرته مع الحذف ، أو نسخ بعض الكلام ونقل الأخر دون ترتيبه أو نبرته أو مقصده ، وكلها سواء ، أو نقل الكلام بأي مما سبق و الزيادة عليه برأي ينسبه الناقل للقائل ، أو نقل الكلام بأي مما سبق و الزيادة عليه برأي الناقل ، ويكون الشق الثاني بالإسقاط على أحد المستمعين ممن ليس لديه طريقة للاعتراض نتيجة الخجل أو المصلحة أو السلطة ويكون بالإشارة أن المُسقط عليه (عليهم) لديه (لديهم) نفس الميول المعينة التي تكمل معنى ما يقصده المتكلم من كلمات و يشاركونه في نفس المعتقدات لإيهام المستمعين من غيرهم بصحة النقد أو الرأي أو الكلام سواء عن المنقول عنه اللفظ أو الفعل.

 في محيط الأسرة يكثر السلوك السلبي من ألوان اللسان لأسباب تتعلق بالغيرة أو الحسد أو الفشل في مضاهاة الغير. 

أما في محيط العمل فيكثر السلوك السلبي من ألوان اللسان لأسباب تتعلق بالغيرة المهنية أو الحسد الوظيفي أو الفشل في المضاهاة و أيضا التقرب للمسئولين أو الحصول على مزايا ولكن الأسوأ في محيط العمل هو إلهاء  الغير في مسائل بعيدة حتى لا تفتضح بعض الشئون والتي تتعلق خاصة بمؤشرات الأداء والمسئوليات الإدارية وغيرها من ما يستوجب المسائلة.

لنفسي قبل غيري أكتبها ، إن الإنسان يجب أن يكون أمينا على كلام الآخر وعلى ما يعرفه من أفعاله، وأن يكون ساعيا بالخير، يعرف جيدا متى ينقله ومتى يمتنع. وعلى الإنسان أن يعرف متى يجامل المتحدث أو ناقل الكلام ويستمع له ويستقبل منه ، ومتى يوقفه ويمنعه أن يتمادى ، فالبشر مشاركون في الفعل حين ينصتون وكلهم آذان صاغية إذ يشجعون على الاستمرار. وعلى كلاهما ، أن يزن كلامه ، وأن يفكر في عواقبه قبل أن ينطق به أو يعيد تكرارها. وكم هي كثيرة هي القصص المكتملة الأركان التي سمعها أُناس ولم يحاولوا التأكد من صدقها أو عدمه ، أو أنها حدثت فعلا بتفاصيلها كما رواها الناقل أو لا.

السيد محمد كمال المغربي

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مسيرة علماء الفيزياء - لاس فيجاس 1986

السلوك الاجتماعي الإيجابي